«وكل كدرٍ بالتركيب فقلما يصفو، وكل مركّبٍ على الكدر قلّما يعتدل، إلا أن الانحراف متى كان إلى جانب العقل كان أصلحَ من أن يكون إلى طرف الحمق، والكامل عزيز، والبريء من الآفات معدوم، إلا أنّ العليل إذا قيّض اللهُ له طبيبًا حاذقًا رفيقًا ناصحًا كان إلى العافية أقرب، وإلى الشفاء أرحى، ومن العطب أبعد، وبالاحتياط أعلق. فالعاقل إذا عرف من نفسه عيوبًا معدودة، وأخلاقًا مدخولة، استطبّ لها عقلَه، وتطبب فيها بعقله، وتولى تدبيرها برأيه ورأي خلصانه، فنفى ما أمكن نفيه، وأصلح ما قُبِل إصلاحه، وقلل ما استطاع تقليله، فقد يجد الإنسان الرّمص في عينه فينحيه، ويُبتلى بالبَرَص في بدنه فيخفيه.»


-الإمتاع والمؤانسة-
Forwarded from شَادِنْ 𓃴
كلام نفيسٌ جدًا، مستحق القراءة، لأبي حيان التوحيدي، وهو في أصله وطبيعته مجموع في قول الحقّ :﴿وتلك الأيامُ نداولها بين النّاس﴾
في النفس المرهفة.. يظل التعبير حبيسَ التأمل، ويظلّ الكلامُ مرهونًا بجميل الصمت . فإذا تحلحل قيد المبهم وكشف عنه حسنُ الفَهم، تجلى بأبهى حللٍ وسلب الألباب، إذْ جلّ  غايتها من صمتها وكتمانها واصطبارها ألَّا يُجرح المعنى.
ما البلاغة؟ ما البلاغة إلا أن توظفها في الحياة، أن تعرف الوضع الذي يقتضيها، دون أن تمسّها بطائف الجفوة، وليست فقط أن تحلل بها نصوصًا غُلّقت مضامينها، نعم، قلت هذا في قلبي، بعد أن نزل كلامها صواعق، فانهمرتُ الليلَ كلّه مع السماء الماطرة، وارتجفتُ الصبحَ كلّه مع غزالٍ هارب في مخطوط، ما البلاغة؟ ما البلاغة إلا أن تتعلّم الإنصاف، أن تقيسه بميزان القلوب، وأن تعرف التكامل بين الجزء والجزء، وألا تصدر الحكم حتى تمهل في النظر والتقليب. ما البلاغة؟ نعم، بالله عليكم.. ما البلاغة؟!
ثمّة أحكامٌ تصدر بقياس القريب على البعيد، والغائب على الحاضر، فكيف بمن يصدر حكمه عن هوًى في نفسه؟! فإنه إن فعل، وكان هواه موافق الحق، أدخله في معرض الباطل، لأنه ادعى دون سبب، واتهم دون حجة، وآثر القريب الظاهر على باطنٍ يظهر بالاستنباط، لذلك أهل الأحكام - أيًّا كان تخصصهم- هم أهل حكمة ورويّة، يفصلون الحق فصل الخطاب، فصلًا ينجيه من الالتباس والشبّهة.
إييه! كنت سأكمل نظمها فخشيت من إيغال العاطفة، وأن يبعث الشجى بكلّ الشجى، وكما قلت: قد اتسع الرقع على الراقع:

مِن أَين أبدأُ والْأَقلامُ تُنْتَزَعُ
منِّي، وحرفٌ بقلبي شاردٌ فزِعُ؟!

واحرّ قلباه إن لم تدركوا رِئمًا
شقَّت عليها المُنَى واصطادها الجزعُ
رفح التي يقصفها الجيش الجبان بأطنان المتفجرات، ممدوداً بالمعونات العسكرية العالمية ومحفوفاً بخيانات الخونة..رفح هي هذه هي البقعة الحمراء الصغيرة على الخارطة!!
مساحتها حوالي 60كم٢ فقط!!
هذا يعني أنها جزء واحد من 450 جزء من أرض فلسطين التي تبلغ مساحتها 27000كم٢.
هل رأيت جبناً ونذالة واستقواءً على الضعفاء أكثر من هذا؟!
لقائله.
معيّة الله وألطافه ورحماته وتدبيره تفوق التصوّر، حتى لو كان في هيئة حلم، لعلّي اليوم كنت مبعدة، فجأةً انفصلت عن كل الحاضرين، وعن المُحاضِر الذي يلقي درسه، وبتّ أرى كل ما حولي أشتاتًا، ضاقت بي ظلمة الغرفة، مع أنها أكثر مكانٍ نورانيٍّ للروح، وأوسع نافذة تطل بها على الكون كله، لكن ليس اليوم، أوّل مرةٍ أشعر أني أمشي بغير هدًى، لا أرى من حولي، ولم أتنبه غير فتاة تلمس كتفي، فتقول (أنا معك وأعرفك..قلقت عليك، هل أحضر لك شيء؟) استغربت، كنت أظنني أجلس بهدوءٍ أتأمل، شكرتها، وهربت، دخلت غابةً شجرها ملتفٌّ، غابةً من رموز، ذهبت إلى ركنٍ ما أهدئ الغزال الشارد مني، انتظرت الحافلة وعدت، ثم حلمت بوالدتي، كانت فرحة مسرورة، وتقول لأخوتي لا تجعلوا أختكم تحمل حقائب ثقيلة، رأيتني في غرفتها ويدي في كفها، ثم مسحت على كتفي، وهي تسأل: هل يؤلمك؟ تلك لمستها شعرت بها حقيقة، وكأن لا ألم بي، نعم، استقيظت كأنّ شيئا لم يكن.
"شفَق"
فقالت: أطعنا الشوق بعد تجلّدٍ وشر قلوبِ العاشقين جليدها علي بن الجهم، شعره يؤكد معنى:(وإن أحسن ما في الشاعر قلبُه الفصيح.)
حسن التعليل عند علي بن الجهم ملحوظ في ديوانه.

قال في سجنه:

قالَت حُبِستَ فَقُلتُ لَيسَ بِضائِرٍ
حَـبسـي وَأَيُّ مُـهَنَّـدٍ لا يُـغمَـدُ
"شفَق"
أدرك بالشوق ما لا يُدرك باللقاء، وأتحسس الألفة كما يميز الأعمى وجود أخلائه. أفئدةٌ أبيت الليل أرعاها بعين المحبة، وأحفظ عنها روايات الوجود. وإذا همّ امرؤٌ بفكِّ رموز الروح وتعالقِها، تكشفت له ظنونُه فيها، فلن يجد ما يثبت أن روحًا تداخلت في روحٍ حدّ أن ينعكسا…
لما رأيت مع صديقتَيّ أن الجمعية الثقافية التي نتدرب عندها أضافت ديوانيّ البردّوني ومحمد إقبال، جلسنا نحتسي الشعر ساعة، وأول شيء جرى على لساني، تلك القصيدة الروحيّة، معدنها ترابي وجرت في لفظها لغة السماء:

حديث الروح للأرواح يسري
وتدركهُ القلوبُ بِلا عناءِ

هَتفْتُ بهِ فطارَ بِلا جناحٍ  
وشقَّ أنينهُ صدرَ الفضاءِ

ومعدِنهُ تُرابيٌ ولكنْ  
جرتْ في لفْظِهِ لغةُ السماءِ


لقدْ فاضتْ دموعُ العشقِ منِّي  
حديثاً كانَ عُلويَ النداءِ

فحلّقَ في رُبى الأفلاكِ حتى  
اهاجَ العالمَ الأعلىَ بُكائي


وجاوبتِ المجرّةُ علَّ طيفاً  
سَرى بينَ الكواكبِ في خفاءِ

وقال البدرُ هذا قلبُ شاكٍ  
يواصلُ شدوهُ عندَ المساءِ

ولمْ يعرفْ سِوىَ رضوانَ صوتي  
وما أحْرَاهُ عندي بالوفاءِ
"شفَق"
إن أعز ما أقدره في مراحل الفن العلية عند الشاعر هي (صحوة الشعور)، فإذا فكرنا في الشعر الذي حرك قلبه تمثل عندي في قول امرئ القيس "ريع قلبه" ثم شبه ذلك (الروع) بنشوة المخمور إذا شربها صباحا، لأن هذه الصحوة، وذلك الاستنفار، هو معنى الروع، ولأن في قول الشعر نشوة،…
«إذا راعك منظر من المناظر.... فصورت ما تجد في نفسك من الروعة، وما يملؤها من الإعجاب، وما يكون فيها من التأثير والانفعال تصويرًا يلائمه روعة وقوة، وينقله إلى نفس قارئك أو سامعك كما تجده، أو قريبًا مما تجده، في لفظ جميل ممتاز بالرقة إن كان الموضوع يحتاج إلى الرقة، وبالفخامة والضخامة إن كان الموضوع يحتاج إلى الفخامة والضخامة، فقد أنشات أدبا، أي أحدثت أثرًا فنيًّا جديدًا لم يكن قبل أن تُحدثه»
"شفَق"
والصّبرُ إياةُ المحبة.
لقد أصبحت هذه العبارة وقود روحي، وذكاء محبتي، وعلائق أرتبط بها مع أهل الشوق..
"شفَق"
(عن الحنين والتفرق) في بيت ابن زيدون: وأرَّق العينَ والظلماءُ عاكفةٌ ورقاءُ قد شفَّها إذْ شفَّني حزَنُ فبتُّ أشكو وتشكو فوق أيكتِها و باتَ يهفُو ارتياحًا بيننَا الغُصنُ قال سائلًا: ما الحالة التي عليها الغصن حتى يكون…
لو لم يُظهِر ابن زيدون ارتياح غصنٍ مازال ملتحمًا مع صلبه، لما ظهرت شكوى الفراق المشتركة بينه وبين الحمامة، أما البارودي فكان في الصورة غريبًا مفترقا لوحده، فالحمامة مع إلفها، والغصن مياد متنعم لم يُقطع:

أَلا يَا حَمَامَ الأَيْكِ إِلْفُكَ حَاضِرٌ
وَغُصْنُكَ مَيَّادٌ فَفِيمَ تَنُوحُ؟!

غَدَوْتَ سَلِيماً فِي نَعِيمٍ وَغِبْطَةٍ
وَلكِنَّ قَلْبِي بِالْغَرَامِ جَرِيحُ
2024/05/17 16:37:18
Back to Top
HTML Embed Code: